فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (56- 59):

قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول، إنما هو إلى الإله، بينه بقوله تعالى: {وما نرسل} على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها {المرسلين إلا مبشرين} بالخير على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالشر على أفعال المعصية، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر {ويجادل الذين كفروا} أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم: لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء {ليدحضوا} أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا {به الحق} الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم.
ولما كان لكل مقام مقال، ولكل مقال حد وحال، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال، وكان اتخاذ الاستهزاء أمرًا واحدًا، أتى به ماضيًا فقال تعالى: {واتخذوا} أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا {ءاياتي} بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح {وما أنذروا} من آياتي، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار {هزوًا} مع بعدهما جدًا عن ذلك، فلا بالرغبة أطاعوا، ولا للرهبة ارتاعوا، فكانوا شرًا من البهائم.
ولما حكي عنهم هذا الجدال، والاستهزاء والضلال، وصفهم بما يموجب الخزي فقال- عاطفًا على ما تقديره: فكانوا بذلك أظلم الظالمين: {ومن أظلم} منهم- استفهامًا على سبيل التقرير، ولكنه أظهر للتنبيه على الوصف الموجب للإنكار على من شك في أنهم أظلم.
فقال تعالى: {ممن ذكر} أي من أيّ مذكر كان {بأيات} أي علامات {ربه} المحسن إليه بها؛ قال الأصبهاني: وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الرجل على ما لا جواب فيه إلا الذي يريد خصمه.
ولما كان التذكير سببًا للإقبال فعكسوا فيه قال تعالى: {فأعرض عنها} تاركًا لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجبه ذلك الإحسان من الشكر {ونسي ما قدمت يداه} من الفساد الذي هو عارف- لو صرف عقله إلى الفكر فيما ينفعه- أن الحكمة تقتضي جزاءه عليه، وأفرد الضمير في جميع هذا على لفظ {من} إشارة إلى أن من فعل مثل هذا- ولو أنه واحد- كان هكذا، والأحسن أن يقال: إنهم لما كانوا قد سألوا اليهود عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أشير إليه عند {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] فأمروهم بسؤاله عما جعلوه أمارة على صدقه، فلم يؤثر ذلك فيهم، واستمروا بعد إخباره بالحق على التكذيب، شرح حالهم بالتعقيب بالفاء، فكان المعنى: من أظلم منهم، لأنهم ذكروا فأعرضوا ونسوا ما اعتقدوا أنه دليل الصدق، وأنه لا جدال بعده، وسيأتي لموقع الفاء في آخر السجدة مزيد بيان، وإسناد الفعل في الإعراض وما بعده إليهم حقيقة مما لهم من الكسب كما أن إسناد الجعل وما بعده إلى الله حقيقة بما له من الخلق.
ولما كان كأنه قيل: ما لهم فعلوا ذلك؟ أيجهل قبح هذا أحد؟ قيل: {إنا جعلنا} بما لنا من القدرة على إعماء البصائر والأبصار {على قلوبهم} فجمع رجوعًا إلى أسلوب {واتخذوا ءاياتي} لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئًا من الحيز يصل إليها، فهي لا تعي شيئًا من آياتنا، ودل بتذكير الضمير على أن المراد بالآيات القرآن فقال تعالى: {أن} أي كراهة أن {يفقهوه} أي يفهموه {وفي ءاذانهم وقرًا} أي ثقلًا فهم لا يسمعون حق السمع، ولا يعون حق الوعي {وإن تدعهم} أي تكرر دعاءهم كل وقت {إلى الهدى} لتنجيهم بما عندك من الحرص على ذلك والجد {فلن يهتدوا} أي كلهم بسبب دعائك {إذًا} أي إذا دعوتهم {أبدًا} لأن من له العظمة التامة- وهو الذي إذا عبر عن نفسه بنونها كانت على حقيقتها- حكم عليها بالضلال، أي أنه لا يكون الدعاء وحده هاديًا لأكثرهم، بل لابد معه من السيف كما سنأمرك به فتقطع الرؤوس فيذل غيرهم، وقد يكون المراد أن من كان هكذا معاندًا على هذا الوجه مؤبد الشقاء، وقد نفى آخر هذه الآية الفعل عن العباد وأثبته لهم أولها، وقلما نجد في القرآن آية تسند الفعل إليهم إلا قارنتها أخرى تثبته لله وتنفيه عنهم، ابتلاء من الله لعباده ليتميز الراسخ- الذي ينسب للمكلفين الكسب المفيد لأثر التكليف، ولله الخلق المفيد لأنه سبحانه لا شريك له في خلق ولا غيره- من الطائش الذي يقول بالجبر أو التفويض.
ولما كان هذا مقتضيًا لأخذهم، عطف على ما اقتضاه السياق مما ذكرته من العلة قولَه تعالى: {وربك} مشيرًا بهذا الاسم إلى ما اقتضاه الوصف من الإحسان بأخذ من يأخذ منهم وإمهال غيره لحكم دبرها؛ ثم أخبر عنه بما ناسب ذلك من أوصافه فقال: {الغفور} أي هو وحده الذي يستر الذنوب إما بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت {ذو الرحمة} أي الذي يعامل- وهو قادر- مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام؛ ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى: {لو يؤاخذهم} أي هؤلاء الذين عادوك وآذوك، وهو عالم بأنهم لا يؤمنون لو يعاملهم معاملة المؤاخذ {بما كسبوا} حين كسبهم {لعجل لهم العذاب} واحدًا بعد واحد، ولكنه لا يعجل لهم ذلك {بل لهم موعد} يحله بهم فيه، ودل على أن موعده ليس كموعد غيره من العاجزين بقوله دالًا على كمال قدرته: {لن يجدوا من دونه} أي الموعد {موئلًا} أي ملجأ ينجيهم منه، فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأول ظلمهم وآخره.
ولما كانت هذه سنته في القرون الماضية والأمم الخالية، قال تعالى عاطفًا على قوله: {لهم موعد} مروعًا لهم بالإشارة إلى ديارهم المصورة لدمارهم: {وتلك القرى} أي الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم {أهلكناهم} أي حكمنا بإهلاكهم بما لنا من العظمة {لما ظلموا} أي أول ما ظلموا، أو أهلكناهم بالفعل حين ظلمهم لكن لا في أوله، بل أمهلناهم إلى حين تناهيه وبلوغه الغاية، فليحذر هؤلاء مثل ذلك {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {لمهلكهم} أي إهلاكهم بالفعل {موعدًا} أي وقتًا نحله بهم فيه ومكانًا لم نخلفه، كما أنا جعلنا لهؤلاء موعدًا في الدنيا بيوم بدر والفتح وحنين ونحو ذلك، وفي الآخرة لن نخلفه، وكذا كل أمر يقوله نبي من الأنبياء عنا لا يقع فيه خلف وإن كان يجوز لنا ذلك، بخلاف ما يقوله من نفسه غير مسند إلينا فإنه يمكن وقوع الخلف فيه، كما وقع في الوعد بالإخبار عن هذه المسائل التخلف أربعين ليلة أو ما دونها على حسب فهمهم أن {غدا} على حقيقته. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.
ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعًا وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق.
وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضًا أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزوًا وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة.
قال النحويون ما في قوله: {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفًا ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان.
الصفة الأولى: قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ} أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم.
الصفة الثانية: قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يفقهوه} وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام، والعجب أن قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} متمسك القدرية، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، والتجربة تكشف عن صدق قولنا.
وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة، وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة، لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادرًا عليها، أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن، أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال: المراد أنه يغفر كثيرًا لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيرًا ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلًا من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح وقوله: {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} أي منجى ولا ملجأ، يقال وأل إذا لجأ، ووأل إليه إذا لجأ إليه، ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ القرى} يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا، وتلك مبتدأ، والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى، وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} أي وضربنا لإهلاكهم وقتًا معلومًا لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر، والمهلك الإهلاك أو وقته، وقرئ: {لمهلكهم} بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة، أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم، والموعد وقت أو مصدر، والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتًا ليكونوا إلى التوبة أقرب. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ليُدحضوا به الحقَّ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ليذهبوا به الحق، ويزيلوه، قاله الأخفش.
الثاني: ليبطلوا به القرآن ويبدلوه، قاله الكلبي.
الثالث: ليهلكوا به الحق. والداحض الهالك، مأخوذ من الدحض وهو الموضع المزلق من الأرض الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم، قال الشاعر:
ردَيت ونجَى اليشكري حِذارُه ** وحادَ كما حادَ البعير عن الدحض

{واتخدوا آياتي وما أنذروا هُزُوًا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الآية البرهان، وما أنذروا القرآن.
الثاني: الآيات القرآن وما أنذروا الناس.
ويحتمل قوله: {هزوًا} وجهين:
أحدهما: لعبًا.
الثاني: باطلًا.
قوله عز وجل: {وربُّكَ الغفور} يعني للذنوب وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة.
{ذو الرّحمة} فيها أربعة أوجه:
أحدها: ذو العفو.
الثاني: ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفرة.
الثالث: ذو النعمة.
الرابع: ذو الهدى، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان وأهل الكفر لأنه ينعم في الدنيا على الكافر كإنعامه على المؤمن، وقد أوضح هذه للكافر كما أوضحه للمؤمن، وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر.
{بل لهم موعدٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أجل مقدر يؤخرون إليه.
الثاني: جزاء واجب يحاسبون عليه.
{لن يجدوا مِن دونه مَوْئلًا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: ملجأ، قاله ابن عباس وابن زيد.
الثاني: محرزًا، قاله مجاهد.
الثالث: وليًا، قاله قتادة.
الرابع: منجى، قاله أبو عبيدة. قال والعرب تقول: لا وألَت نفسه، أي لا نجت، ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خلّيْتها ** للعامريّين ولم تُكْلَمِ

أحدهما: أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر.
الثاني: أهلكناهم بأن وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر.
{وجعلنا لمهلكهم مَوْعِدًا} فيه وجهان:
أحدهما: أجلا يؤخرون إليه، قاله مجاهد.
الثاني: وقتًا يهلكون فيه. وقرئ بضم الميم وفتحها، فهي بالضم من أُهلك وبالفتح من هَلَك. اهـ.